اغتيال هنية- تصعيد خطير وتداعيات تهدد استقرار الشرق الأوسط

في تطور مدوٍ هزّ المنطقة، أُغتيل فجر اليوم إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس. بينما لم تعلن أي جهة مسؤوليتها رسمياً عن هذا الاغتيال الجائر، تتجه أصابع الاتهام بشكل فوري نحو إسرائيل، التي لطالما تعهدت بالتخلص من هنية وغيره من قادة حماس، وذلك على خلفية الهجوم المباغت الذي شنته الحركة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل، والذي أدى إلى مصرع ما يقرب من 1200 شخص، واحتجاز نحو 250 آخرين.
تطور خطير
بعد لحظات فقط من الإعلان الرسمي عن نبأ اغتيال هنية، سارع موقع "إسرائيل اليوم" إلى وصف عملية الاغتيال هذه بأنها "تطور خطير" من شأنه أن "يعيد رسم ملامح الحرب المستمرة منذ ما يزيد على تسعة أشهر في قطاع غزة المحاصر".
تُعتبر هذه العملية بالغة الخطورة، فهي بمثابة زلزال حقيقيّ، قد يمتد تأثيره إلى جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط المضطربة، وقد تتطاير شراراته لتصل إلى الداخل الإسرائيلي نفسه. ولعل هذا ما دفع تل أبيب، المتهم الأول في هذه الجريمة النكراء، إلى التزام الصمت المطبق والتهرب من أي أسئلة قد يطرحها صحفيو المنصات الإخبارية العالمية.
وبغض النظر عن دوافع هذه العملية وملابساتها.. فهل يمكن القول إن إسرائيل "ابتهجت" باغتيال أبرز القيادات العربية التي تعتبرها معادية لها؟! لا يمكن لأحد الجزم بذلك على وجه اليقين! فالشارع الإسرائيلي منشغل في هذه الآونة بملف صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية، وليس باغتيال قادة فلسطينيين.
إن توقيت العملية، ربما يعيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى دائرة الاستهداف مجددًا من قبل الإسرائيليين، الذين لطالما اعتبروه العقبة الكأداء أمام إبرام صفقة تهدف إلى إعادة أبنائهم الأسرى في غزة. بل ربما يُنظر إلى عملية اغتيال هنية على أنها عمل لا يخدم الأمن القومي الإسرائيلي، وإنما يصب في مصلحة سيناريوهات نتنياهو المتعددة والمتنوعة لإفشال أية جهود ترمي إلى إنهاء الحرب الدائرة، وتسوية ملف الأسرى؛ خوفًا من استئناف محاكمته في قضايا الفساد المتهم بها، والتي بات من المؤكد أنها ستزج به في السجن بعد أن تضع الحرب أوزارها.
عملية الاغتيال، من المرجح أنها قد نُفذت بدون استشارة سيد البيت الأبيض "الضعيف"، معتمدة على أنه غير قادر حتى على توجيه العتاب أو التوبيخ لإسرائيل.. فالبيان الأميركي الرسمي اكتفى بالقول إنه على "علم بالتقارير التي تتحدث عن اغتيال هنية"، فضلًا عن التصريحات المقتضبة لوزير الدفاع الأميركي، والذي أعاد ذات المعنى وأنه علم بـ"خبر" العملية، مثله مثل عامة الناس، وليس كأكبر راعٍ للغطرسة الإسرائيلية في المنطقة.
انفلات العقل السياسي الإسرائيلي
بيدَ أنه ليس ثمة شك في أن هاريس، نائبة الرئيس الأميركي "المغيبة" عن الأحداث، والتي لا تخفي حاجتها المستمرة إلى النوم فيما يشتعل العالم من حولها، والمرشحة المحتملة لخوض الانتخابات الرئاسية في مواجهة منافس جمهوري عنيد وشرس، باتت الآن في موقف حرج وأمام تساؤلات مقلقة حول انفلات العقل السياسي الإسرائيلي، وعجز إدارتها "المؤقتة" عن كبح جماح تهوره ونزقه، وإحراج واشنطن أمام حلفائها الإقليميين، وتحملها سداد فواتير هوس نتنياهو بالسلطة ولو على حساب العالم كله، خاصة أن الحدث جسيم ويمسّ بسمعة الولايات المتحدة الأميركية، وبنفوذها وقدرتها في التأثير على قنوات وأوعية صناعة القرارات الإقليمية السيادية في منطقة الشرق الأوسط.
فضلًا عن التكلفة الباهظة لتورطها في المنطقة في حال انزلقت إسرائيل إلى حرب أوسع نطاقًا تمتد من طهران والعراق شمالًا وإلى صنعاء جنوبًا مرورًا بلبنان وحزب الله المسلح، بما قد يعيد إسرائيل إلى حقبة ما قبل وجودها.
ومن المرجح أن تفضي العمليّة الآثمة إلى مراجعة أميركية شاملة لخطابها التبريري للغطرسة الإسرائيلية في المنطقة، إذ بات شعار "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" شيكًا على بياض استغله نتنياهو لإضافة المزيد إلى رصيده السياسي المثقل بهمومه الشخصية وقلقه المتزايد من المحاكمة بعد انتهاء الحرب، وخصمًا من رصيد واشنطن في منطقة تعج بالاضطرابات ولا يفصلها عن الفوضى سوى غياب الحضور الأميركي بشقّيه: العسكري والسياسي.
صفعة للسرديات العربية
ولذا فإنه لا شك في أن اغتيال هنية يمثل "تهورًا" لا تُقدم عليه قيادة سياسية رصينة وعاقلة، فهو قد جاء بعد ساعات قليلة فحسب من محاولة اغتيال قيادة عسكرية مرموقة لحزب الله في الضاحية الجنوبية من بيروت، وقبل أن يقرّر الحزب سقف الرد على تلك العملية.. فعلامَ كان يراهن نتنياهو وهو يوقّع على قرار اغتيال أرفع مسؤول سياسي ودبلوماسي في حماس، وأن يتم ذلك في طهران تحديدًا، الدولة التي تنتشر أذرعها العسكرية في أربع عواصم عربية، وصواريخها قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بنصف إسرائيل؟!
تُعد هذه العملية إهانة بالغة لإيران.. واستفزازًا لا يمكن لأي مراقب، مهما بلغت درجة خبرته، التكهن بتبعاته المحتملة والخطوة التالية له. إذ يتعين على السلطات الإيرانية الإجابة عن سؤال محوري: لماذا تم الاغتيال في طهران تحديدًا؟!.. وليس في أية عاصمة أخرى من تلك العواصم التي كان يقيم فيها هنية أو يزورها بصفته مفاوضًا وممثلًا لحماس؟!
وتبقى الإشارة هنا إلى أن اغتيال هنية يُعتبر أكبر صفعة للسرديات العربية التي أحرجتها عملية "طوفان الأقصى" البطولية وما تلاها من صمود أسطوري على غير أي مثال سابق في تاريخ الشعوب التي ناضلت من أجل استقلالها.
إذ لم تتوقف تلك السرديات، قبل اغتياله المأساوي، عن الادعاء بأنه يعيش في نعيم الفنادق الفاخرة خارج فلسطين، تاركًا شعبه الأعزل فريسة لآلة الحرب الإسرائيلية الشرسة والعمياء، في حين استشهد هو نفسه أخيرًا، ومن قبله ثلاثة من أبنائه، وهم حازم ومحمد وأمير، في غارة جوية إسرائيلية غادرة في العاشر من أبريل/نيسان الماضي، كما فقد أربعة من أحفاده الأبرياء، وهم ثلاث فتيات وصبي، في الهجوم الإجرامي نفسه.